اللغة العربية في الزمن الرقميّ: ستُّ فجائع، وثلاثةُ مقترحات!
حبيب عبدالرب سروري (*)
(1) مدخل: نحو جَدَلٍ حول مأساة واقع اللغة العربية في الزمن الرقميّ!
يستخدم العرب، بأعداد أكثر فأكثر لحسن الحظ، البريدَ الإليكتروني وتصفّحَ مواقع وصُحُف إنترنت، وتنزيلَ المواد الإليكترونية من مقالاتٍ وأغان... إذا اعتبر القارئُ هذا الحضورَ العربيَّ انتماءً للعصر الرقميّ، فمن الأفضل أن لا يواصل قراءة هذا المقال، لأن هذا القارئ الأريب أشبه تماماً بمن يُعرِّف الإنسان بـ«كائنٍ حيّ يتنفّس ويأكل ويشرب فقط»!...
هدف هذا المقال: 1) رسم الخارطة المأساوية لخواء حضور اللغة العربية في الزمن الرقمي، 2) لفت نظر الجميع لتأخّرِها المرعب للبدءِ ببناءِ قاعدةٍ تحتيّة لحضورها على الإنترنت، في حين أكملَ معظمُ الدول بناء هذه القاعدة التي أخذَتْ عدّة عقود، قبل أن تَبدأ عصرَ الرقمنةِ ومشاريعَه المعرفيّة العملاقة، 3) إثارة جدلٍ عربيٍّ واسع حول هذا التأخر، 4) ضمّ أكبر مجموعة من عشّاق اللغة العربية من كتّاب وباحثين ومدرّسين وطلّاب، وأصحاب قرار أيضاً (أياً كان ضعف إدراكهم للأهمية القصوى لإنقاذ اللغة العربية، أو رغبتهم الحقيقية في دخولها غرفة الإنعاش) للعمل لتحقيق أهداف محدّدةٍ متكاملة لإنقاذِ لغتنا التي نعشقها أيّما عشق!...
قبل سرد الفجائع الستّ التي ستوضح للقارئ أن العربية في العصر الرقميّ عملاقٌ من قش، يلزمني إعطاء تعريفين!...
(2) النص الورقيّ والنص الرقميّ: تعريفان لا بدّ منهما، قبل سرد الفجائع!
إذا كان تعريف النصّ الورقي سهلاً («هو نصٌّ مكتوبٌ أو مطبوعٌ على عدد من الأوراق...») فتعريف النص الرقمي أصعبُ وأوسعُ بكثير: هو نصٌّ يصلُ من شبكة كمبيوترات (تتكون من كمبيوتر واحدٍ على الأقل، أو تضمّ كلَّ كمبيوترات الكون إذا لزم الأمر) ويُقرأُ على شاشة. غير أن له خصوصيات عدّة، شديدة الأهمية والثراء، لا توجد في النصّ الورقيّ، سأسرد أبرزها الآن:
أ) هو نصٌّ فائق، Hypertext: تتعانق فيه كل الوسائط معاً، من صوتٍ وصورةٍ وفيديو، في وعاءٍ تفاعليٍّ جميلِ الإخراج، متعدِّدِ الأبعاد، عبقريِّ المحتوى! لذلك هو أرقى وأثرى الوسائط الثقافية التي عرفها الإنسان منذ فجر التاريخ!... (لعلّ عبارة: «نصّ تشعبّي»، التي تُستخدم غالباً لترجمة Hypertext ليست مناسبة جدّاً!).
ب) هو نصٌّ مفتوح (وليس مغلقاً مثل النص الورقيّ الذي يبدأ بالصفحة الأولى وينتهي بالأخيرة) بفضل «صلات النصوص الفائقة»، Hypertext Links، المشار لها عادةً بخطوط أسفل أية كلمة، والتي تسمح (عند نقرِها) بالانتقال إلى موضعٍ آخر في نفس النص أو إلى أيِّ نصٍّ آخر في أي كمبيوتر في أطراف الكرة الأرضية. تستطيع هذه الصلات أيضاً الانتقالَ الآلي إلى قواميس لشرح مدلولات كلمات النص، أو تقديمَ أية معلومات عنها...
ج) هو نصٌّ هوائي، يمكن الوصول إليه من أي جهاز (كمبيوتر، تلفون نقال، جهاز ألعاب الكترونية، جهاز القارئ الالكتروني الجديد...) ومن أي مكان: المكتب، الشارع، الشاطئ، سرير النوم، المرحاض... ثمة استعارة تقليدية أنيقة تُصوِّر هذه الخصوصية بشكلٍ صائب: Cloud Computing، أو «الحوسبة السحابيّة» إذا جاز القول!...
د) هو نصٌّ ذَرِّيُّ الفهرسة (يتم فهرسةُ جميع كلماته، وليس فصوله فقط مثل الكتاب الورقيّ) بفضل ما تسمى: «موتورات البحث» الكونية (مثل جوجول الذي يحوي حاليا أكثر من 25 مليار نص، ومليار صورة، موزعة على نصف مليون كمبيوتر، في 32 موقعاً جغرافياً أميناً، كثيرٌ منها تتخندقُ قرب المفاعلات النووية)... بفضلها يمكن الوصول إلى النص الرقميّ بطريقة عبقرية لم تخطر ببال قبل سنوات قلائل: يكفي أن تُقدَّمَ لموتورات البحث كلمةٌ أو بضعةُ كلمات من النصِّ أو من عنوانه، أو كلمات قليلة تتعلّق به، كي تضع هذه الموتورات النصَّ أمام القارئ (مثل خاتم سليمان السحريّ) وتعرضهُ على الشاشة في بضعة ثوان! ليس ذلك فحسب، بل تقدِّم رهن إشارة القارئ في نفس الوقت أيضاً، جميع النصوص والوثائق والكتب الموجودة على الإنترنت التي تحتوي على تلك الكلمات المقدمة لموتورات البحث!... ألا تبدو الحقيقة هنا أشدَّ إعجازاً من الخيال؟...
ه) هو نصٌّ سهلُ التحديث (يتطلب ذلك ثوانٍ فقط أحياناً، بعكس النص الورقيّ الذي يلزم إعادة طبعه!)، سهلُ النسخ والنقل والإرسال (يتمّ ذلك في هنيهات!)، سهلُ الحمل (لا وزن له أو أعباء لوجيستيكية!)، ليس له أية مضار بيئيّة مثل النصّ الورقيّ!... ناهيك أنه أرخص من النص الورقيّ بكثير لاختفاء الحاجة للورق والحبر والمطابع ومكتبات التوزيع!...
(3) الفجيعة الأولى: لغةٌ بلا بناءٍ تحتيٍّ معرفيّ!
توالت على العالم منذ بدء التسعينات من القرن المنصرم، لاسيما الغرب والشرق الأقصى، مشاريع عملاقة تدعمها الدول والجامعات والمؤسسات العامة، لِرقمنة البناء التحتي للمعارف والحياة العمليّة من نصوص علمية وتقنية وثقافية متنوعة، ودراسات ومحاضرات ودروس للطلاب من المدرسة الابتدائية حتى الجامعة (أقود شخصيّاً مشروعا قوميّاً فرنسيّاً تساهم فيه بعض الجامعات ومراكز الأبحاث، يرتبط برقمنة بعض مواد «الحاسوبيات اللغوية»)، وقواميس وموسوعات وخرائط جغرافية حيّة ترسلها الأقمار الصناعية بشكل مباشر. لكن العالم العربي يعيش في كوكبٍ آخر بعيدٍ كليّةً عن منملة هذه النشاطات والمشاريع شديدة الجوهرية!...
النتيجة اليوم تفقأ العين: بوابات إنترنت للبناء التحتي المعرفي لكل تلك الدول (بوابات المشاريع القومية الرسمية والمكتبات الرقمية المجانية المتخصصة في شتى المجالات، مواقع المؤسسات التربوية العامة أو الخاصة، الجامعات ومراكز الأبحاث، الأساتذة أو الطلاب...) زاخرةٌ بملايين الصفحات الرقمية التي تشكّلُ الصرح الجديد لمجتمعات المعارف!...
يجد القارئ اليوم في مواقع إنترنت تلك الدول ملايين النصوص والكتب الرقمية العلمية والثقافية!... جميعها مدجّجة بـ«صلات النصوص الفائقة» التي تسمح بالانتقال اللحظيّ المباشر إلى جميع المراجع الرقمية المذكورة في تلك النصوص والكتب الموجودة على الإنترنت. معظمها غنيّةٌ بكل الوسائط من صوت وفيديو وصور ذات ثلاثة أبعاد، مُترعةٌ بتمثلات التجارب المختبرية ونصوص المحاضرات بالصوت والصورة، متجدّدةٌ ومتطوِّرةٌ في كل لحظة!...
ثمّة ملايين المحاضرات والمقالات العلمية والتمارين المحلولة والتجارب العلمية والدراسات والأبحاث المقدّمة بطرق تربوية تفاعلية ثريّة طازجة، في كل اللغات... إلا العربية!
ثمّة أيضاً مكوّنات جديدة لِلبناء التحتي للمعارف الرقمية لم توجد قبل إنترنت، صارت إحدى أهم مناهل المعرفة على الصعيد الكوني: الموسوعات التي يتمُّ تطويرُها ورفدُها يومياً، بشكل تفاعليٍّ تعاضديٍّ كونيّ، مما جعل الموسوعات الورقية تبدو بالمقارنة بها شديدةَ الفقر والتخلف!...
يلزم الإشارة هنا إلى موسوعة ويكيبيديا على سبيل المثال، التي يمكن لأي إنسان متطوِّعٍ إغناءُها بأية لغة، والتي أضحت مرجع الملايين من البشر يوميّاً!... يصعب هنا عدم التنويه إلى أن معظم طوبات هذه الموسوعة، لاسيما في أغلب المجالات العلمية والثقافية، تخلو من الترجمة إلى العربية، في حين تُترجم غالباً إلى لغاتٍ أقل تداولاً من العربية بكثير!... يكفي فتح هذه الموسوعة على الإنترنت وتقديم أي كلمة، بلغة غير العربية، لموتور بحث الموسوعة، لرؤية النص الموسوعيّ المتعلق بهذه الكلمة مترجماً لِعديد من اللغات الأكثر أو الأقل تداولاً على السواء، إلا العربية! (الكارثة أصمُّ وأطمّ: في أحيان كثيرة لا يوجد حتّى رديفٌ عربيٌّ لتلك الكلمة!)... عدد المواضيع المكتوبة في ويكيبيديا باللغة البولندية، على سبيل المثال، يساوي عشرة أضعاف ما هو مكتوبٌ بالعربية تقريباً!...
باختصار شديد: في كل المجالات العلمية والتقنية، وفي معظمِ الحقول الثقافية والعمليّة، تمتلك اللغات (عدا العربية) اليوم قاعدةً تحتيةً معرفيّةً رقميةً متعدّدةَ الوسائط (أقصت النصّ الورقي وحلّت محله تماماً، ليبدو، في هذه المجالات على الأقل، وكأنه من مخلفات العصر الحجري!). صناعة المعارف فيها دخلت سباقاً يوميّاً! أما القاعدة التحتية المعرفية بالعربية فهي غائبةٌ بشكلٍ كليّ: لا توجد أيّة مشاريع عربية تستحق حتى الذكر، في هذا الجانب!...
لعلّ اللغة العربية تحتضرُ اليوم بهدوء جراء عدم مواكبتها الزمن الرقميّ: لا يجد فيها الطالب أو المدرّس ضالّته! لذلك، على سبيل المثال، أضحت المواد العلمية تُدرَّسُ باللغات الأجنبية في كل المدارس الخاصة في العالم العربي، وفي كثير من المدارس الحكومية أيضاً. ناهيك عن غياب العربية شبه الكليّ في تدريس المواد العلمية والتقنية والطبية في جميع الجامعات العربية تقريباً، بسبب عدم استخدامها لكتابة المعارف الحديثة!... ربما لذلك يُقال اليوم أكثر فأكثر إنّها «لغةٌ لا تصلح للحداثة، بلا مصطلحات»!...
(4) الفجيعة الثانية: لغةٌ تعاني من أنيميا الترجمة!
من المعروف أن حملة الترجمة الواسعة من مختلف اللغات الإغريقية والسريانية والفارسية والسنسكريتية والحبشية، في العصر العباسي، للكتب الأجنبية في شتى المجالات من فلسفة ومنطق وطب وفلك ورياضيات وأدب، أغنت العربية براوفد فكرية وكلمات ومصطلحات كثيرة، لتصبح بفضل ذلك لغة الحضارة الكونيّة في القرون الوسطى (مثل الإغريقية قبل الميلاد، والإنجليزية والفرنسية والأسبانية اليوم).
ومن المعروف أيضاً أن اليابان لم تتحوّل من دولة متخلفة في بدء القرن التاسع عشر إلى إحدى أكثر دول العالم تقدّما اليوم، إلا بفضل حملة ترجمة واسعة لكل معارف الغرب وانجازاته وسياسته التعليمية، انطلاقاً من أن ترجمة إبداعات الآخر الأكثر تطوراً، واستلهام نهجه، هو مفتاح اللحاق به!...
وفي العقود الأخيرة شنّت الصين أيضاً حملةً واسعةً شرسةً لترجمة المعارف الكونية، لاسيما الغربية، انطلاقاً من نفس المبدأ. استخدمت في ذلك الوسائل التقنية الحديثة، لاسيما إنترنت. قدّمت عروضاً ومكآفات للمترجمين من متخصصين أو طلاب، داخل الصين أو خارجها. فتحت معاهد وأقسام جامعية ونظَّمتْ مسابقات عديدة للترجمة!...
ثمة اليوم (بفضل الحاسوب، وعلوم الكمبيوتر الجديدة، لاسيما علوم «الحاسوبيات اللغوية») طرائق آلية جديدة، تسمح للكمبيوتر بترجمة النص دون مترجم، وبشكل فوريّ! البرمجيات التي أنتجتها هذه التطورات العلمية والتقنية تستطيع اليوم ترجمة كتاب، أو موقع إنترنت، بدقائق. ربما مازالت نتيجة ترجمتها غير دقيقة أو غير جيّدة أحياناً، لاسيما عند ترجمة النصوص الأدبية واللغوية المعقدة. لكنها تساعد على الحصول على نصٍّ أوليٍّ خامٍ سريع جدّاً، يكفي تصليحه وتحسينه يدويّاً للحصول على الترجمة النهائية!... مازال استخدام هذه التقنية عربياً ضعيفاً جدّاً رغم إمكانية استثمارها بقوّة، لاسيما لِردمِ هوّة الترجمة العلمية والتقنيّة والثقافية!...
أنيميا الترجمة العربية صارخةٌ اليوم: كثير من أعين الكتب العالمية لم تر النور بعد بالعربية! معظم أمهات الكتب الحديثة التي تشكّل نبراس الحضارة المعاصرة غير معروفة بالعربية! يكفي لاستيعاب حجم الكارثة ملاحظة أن ما ترجمته إسرائيل في السنوات العشر التي تلت تأسيسها يفوق كل ما ترجمه العرب منذ بدء القرن التاسع عشر إلى اليوم!...
(5) الفجيعة الثالثة: لغةٌ بلا مُدوّنة!
مدوّنةُ أية لغة، (Corpus)، هي مجموعةٌ هائلة (تعدُّ كلماتها بالمليارات) من عيّنات النصوص المكتوبة أو المنطوقة، الآتيةِ من قطاع متنوع عريض محايد من المصادر (الصحف والمجلات المكتوبة والمسموعة والمرئية، الكتب المتنوعة، النقاشات، التقارير، مواقع إنترنت...) والتي تعطي صورةً دقيقةً كاملةً عن اللغة في مختلف أشكالها واستعمالاتها اليومية والعلمية والعمليّة والأدبية، خلال مرحلةٍ زمنية معيّنة!...
تمتلك اللغات اليوم مدوّناتها، المسماة أحياناً «بنوك اللغة». ثمة بوّابات على الإنترنت تسمح بالوصول لـ«قواعدها البيانية» الضخمة والبحث المحدّد في طيّاتها، أو معالجتها أتوماتيكياً بشكلٍ إجمالي! من كنوزها (التي يتمُّ رفدها كل يوم) تُستخلَصُ القواميس والمعاجم المتخصصة في المجالات اللغوية والعلمية والتقنية والعملية. هي المختبر الذي تخرج منه الدراسات اللغوية المتنوعة لِبُنيَة اللغة وظواهرها وشتى دلالات كلماتها، لنواقصها واحتياجاتها المتجدّدة، لمعاجم تاريخ وأصول الكلمات وعلاقتها باللغات الأخرى (المعاجم الإيثومولوجية التي لا توجد حتى الآن في اللغة العربية)!...
المفارقة المثيرة والمؤلمة أن اللغة العربية التي كانت أول من أسس القواميس والمعاجم اللغوية (منذ الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب قاموس العين، وربما الأصمعي قبل ذلك)، والتي قامت في عصرها الذهبي بِدورٍ طليعيٍّ في تأسيسِ دراسات النحو والصرف العبقرية، وتصنيفِ المفردات وترتيب جذورها واشتقاقاتها، وتأليفِ كل المعاجم (بما فيها معاجم الجنّ والشياطين!)، والتي انفتحت بشكلٍ مبكِّرٍ على لغات العالم منذ العصر العباسي وحملة ترجماته الزاخرة، لا تمتلك حتى الآن مدوّنتها اللغوية، أو أي معجم إيثومولوجي!...
(6) الفجيعة الرابعة: لغةٌ بلا «مُتعرِّفٍ ضوئيٍّ لِلأحرف»!
المتعرِّف الضوئي لِلأحرف، Recogonizer Optical Character،OCR ، (أو القارئ الضوئي الآلي) برنامجٌ قاعديٌّ ضروريٌّ تمتلكه كل لغة، يسمح بتحويل النص المصوّر بكاميرا أو ماسح ضوئي (سكانير) إلى نصٍّ رقميّ يمكن فتحه بناشر الكتروني (مثل «ورد»)، وأرشفته كملف على الكمبيوتر!... لا يوجد حتّى اليوم قارئٌ ضوئيٌّ آليٌّ عربيٌّ يستحق أن يحمل هذا الاسم! (بيعت في الأسواق العربية برامج غير جيدة لهذا الغرض، رمى بها بعض من اشتراها في سلّة المهملات، رغم سعرها الباهظ!).
يُشكِّلُ عدم تصميم برمجيةِ قارئٍ ضوئيٍّ آليٍّ لأحرف اللغة العربية حتى الآن عائقاً كبيراً يمنع دخولها عصر الرقمنة، لأنه وحده ما يسمح بتحويل صور صفحات الكتاب إلى نصوصٍ رقميّة!... دونه يلزم من جديد إعادة طباعة كل ما كُتِب بالعربية على الكمبيوتر!... تستخدم اليوم كلُّ اللغات، التي تمتلكُ قارئاً ضوئياً آلياً ، أجهزةً الكترونية ذات «روبوتات» تستطيع بدقائق، وبشكل آليٍّ كامل، فتح الكتاب وتصويره صفحةً صفحة، وتمرير القارئ الضوئي الآلي عليه لِتحويلهِ إلى نصٍّ رقميّ، قبل أرشفتهِ وزجِّهِ في فضاء إنترنت الكوني ليصل إلى أرجاء العالم في لمحة بصر!...
بعض هذه الأجهزة، الذي يكلّف الواحد منها اليوم حوالي ربع مليون دولار، تشتغل في هذه اللحظة التي أكتب فيها هذا المقال، لرقمنة مئات الكتب يوميّاً، بلغاتٍ غير العربية!... في 2007 فقط رَقْمَنَ مشروع جوجول مليون كتاباً بفضل هذه التكنولوجيا!.
انتقال النص من مرحلته الورقية، إلى نصٍّ رقميٍّ يهيم في شبكة كمبيوترات إنترنت الكونية، يمثِّلُ عبوراً من مرحلة حضارية سحيقة إلى أخرى أرقى بكثير (أشبه، دون مبالغة، بالانتقال من عصر الشموع إلى عصر الكهرباء) لما يتمتع به النص الرقمي من مواصفات سردتُها أعلاه!
يمثّل غياب قارئٍ ضوئيٍّ آليٍّ لِصُور النصوص بالعربية معضلةً قوميّة يصعب تصوّر إمكانية وجودها اليوم، في أي بلد، ناهيك عن عالمٍ تمتلك بعض دولهِ ثروات وإمكانيات ماديّة هائلة، كالعالم العربي!...
(7) الفجيعة الخامسة: لغةٌ بدون تقنيات تصحيحٍ وموتورات بحثٍ ملائمة!
أتاحت ديموقراطية إنترنت وسهولة النشر الإلكتروني الكتابةَ المباشرة والنشر السهل للجميع، وليس للنخبة فقط كما كان الحال قبل إنترنت!... إذا كانت تلك نعمةً للشعوب التي حدثت فيها ثورات وتحديثات وإصلاحات في لغاتها، والتي صمَّمتْ برمجيات كمبيوترية لتصحيح نصوصها قبل وضعها على الإنترنت، فإنها نقمةٌ وبليّةٌ حقيقية في العالم العربي الذي لم تتطوّر لغته منذ قرون، والذي يكتظُّ بالأميين، والذي لا نبالغ إذا قلنا إن كثيراً من خريجي مدارسهِ (وجامعاته أحياناً) أنصاف أميين أثناء الكتابة!...
الموضوع خطيرٌ في الحقيقة لأن صفحات إنترنت بالعربية (لاسيما منتديات الدردشة والحوارات، وصفحات الأخبار والتعليقات العامة على الأحداث اليومية والكتابات...) ملطّخةٌ بأدغال من الأخطاء اللغوية والإملائية التي لا تخطر ببال!... المذهل أن عدد بعض الكلمات المكتوبة بغلطات إملائية على الإنترنت قد يفوق يوماً عددَ نفس الكلمات المكتوبة بدون أخطاء! مما ينذر بأنها ستحلُّ محلها، بحكم مبدأ سيادة الأغلبية الإحصائية، عند أية معالجة أتوماتيكية للّغة العربية تمرُّ على كلِّ ما كتب بها على الإنترنت!... من يدري، قد تحلُّ محلها أيضاً في أعين القراء العرب، لاسيما قراء الأجيال القادمة، بحكم مبدأ «الانتقاء الطبيعي» الدارويني الشهير، لأن هذه الأخطاء هي الأكثر حضوراً ومرجعية!...
سأضرب مثلاً عمّا يعني افتقار موتورات البحث، كجوجول، لمصحّح لغوي عربي: يكفي أن تُقدِّم لجوجول كلمةً مكتوبة خطأً: «يصوموون»، أو «مريظ»! لِتصلك آلاف من صفحات إنترنت تحمل هذه الكلمة المكتوبة خطاً، بسبب عدم وجود مصحح لغوّيّ بالعربية مرفق بموتورات البحث! فيما لو تكتب الكلمة بخطأٍ إملائيٍّ بِلغة أخرى، مثل الفرنسية: «Mangeoons» فسيصحِّحها موتور جوجول أتوماتيكيا لِتصبح: «Mangeons» قبل أن يعطيك صفحات إنترنت التي تحوي هذه الكلمة المصحّحة!... موتورات البحث نفسها، كجوجول، ليست ملائمة للعربية، لأنها لا تأخذ خصوصيات تصريفاتها ومرادفاتها في الاعتبار أثناء البحث!...
المريع أن ملايين الصفحات العربية الموبوءة بأعدادٍ فلكيّة من الأخطاء الإملائية مؤرشفةٌ اليوم في شبكة إنترنت شأنها شأن غيرها. تشكّلُ جميعها، دون تمييز، ترسانة النصوص العربية على الشبكة الكونية!... ما أشبه هذه الترسانة أحياناً بشيخٍ عجوزٍ خائر القوى، تلتهمه الفيروسات!...
(8) الفجيعة السادسة: لغةٌ لم تدخل عصر الرقمنة بعد!
دخلت كثيرٌ من الدّول في السنوات الأخيرة، بعد إكمالها بناء القواعد التحتيّة الرقمية (قارئٍ ضوئيٍّ آليٍّ للأحرف، مدوّنه لغوية، ترجمة كثيفة يدويّة وآليّة، برامج تصحيح لغويّ وموتورات أبحاث ملائمة...) عصر مشاريع الرقمنة العملاقة: أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر: مشروع جوجول وبعض كبار المكتبات القوميّة في عام 2004 برقمنة 15 مليون كتاباً، مشروع ميكروسوفت الموازي، مشروع المكتبة القومية الفرنسية برقمنة 6 مليون كتاباً، مشروع دول الشمال الأوربي...
اللغة العربية لا تفتقر بشكلٍ كُليٍّ مفجع لنظائر هذه المشاريع فقط، لكنها لم تبدأ بعد بناء قاعدتها التحتية!... الأرقام العربية التي سأقولها الآن تشرح وحدها ضراوة المأساة: مجمع اللغة العربية في الجزائر الذي تدعمه الجامعة العربية بميزانية خاصة منذ 1975، والمكلف بتأسيس «الذخيرة العربية»، رقمَنَ حتّى الآن بضعة مئات فقط من الكتب العربية، بسبب عدم وجود هذه البنية التحتية! تنوي مشاريع قُطْريّة عربية برقمنة عدد ضئيلٍ للغاية من الكتب العربية، أشعر بالخجل من ذكره!... هذا كلّ ما في الوفاض العربي!...
لا شكّ أن ثمة مواقع عربية تستحقُّ كلَّ تشجيع وتطوير كـ«المسبار»، «الورّاق» «المصطفى»، «مكتبة الإسكندرية»، «المعرفة»، «صخر»... وغيرها مما أجهله من المواقع المخلصة التي تبذل جهوداً متفانيةً لتعزيزِ حضور العربية وتفاعلها مع اللغات، ورقمنةِ المعارف والكتب بها... لكنها ستظلُّ ضعيفة التأثير إذا لم يحتضنها مشروعٌ قوميٌّ جبّار، بأهداف عمليّة متكاملة محدّدة!...
(9) ثلاثة مقترحات...
في اتجاه هذا المشروع، أودُّ تقديم ثلاثة مقترحات مترابطة للمؤسسات الثقافية والتعليمية العربية، وللحكومات العربية ولِجامعة الدول العربية (وإن كان أملي باهتاً جدّاً في أن تلاقي آذاناَ صاغية!):
(1) الاستفادة من التجربةِ الصينية في الترجمة، المستندةِ على تقنيات العصر الرقمي: فتحُ مسابقات ترجمة للجميع (مترجمين تقليديين، طلاب ومتخصصين، كتّاب، معاهد وأقسام ترجمة)، وتقديمُ مكافآت تُعطَى حسب مقاييس تختارها لجانُ تحكيمٍ خبيرة، في ضوء خطّة ترجمة عربية لترجمة ما يعادل العشرة آلاف كتاباً سنويّاً!... يمكن وضع هذه الكتب المترجمة في بوّابات إنترنت لتصل للجميع، دون الحاجة إلى طباعة معظمها بالضرورة!...
(2) فتح باب مسابقات للمدرّسين الجامعيين داخل العالم العربي أو خارجه، تضع مقاييسها وتختار عروضها الناجحة لجان تحكيمٍ متخصّصة، هدفُها بناء بوّابات دروسٍ رقمية عربية نموذجية على الإنترنت للطلاب العرب في مختلف المواد العلمية والتقنية، تستخدم تقنيات متعددة الوسائط حديثة!...
(3) إكمال البناء التحتي للغة العربية على الإنترنت (قارئٌ ضوئيٌّ آليٌّ للأحرف، مدوّنةٌ للغة العربية، موتورات بحث وبرمجيات تصحيح ملائمة، تقنيات ترجمة آلية...) خلال 3 سنوات!...
(10) خاتمة
من المعروف أن هناك علاقةً فيزيولوجيةً عميقة بين التفكير واللغة. تجمُّدُ العربية (التي لم تعرف الإصلاحات الجذرية لمواكبة حاجة العصر، مثل بقية اللغات) هي المرساةُ التي تشدُّ سفينةَ العقل العربي وتبركُه منذ قرون!... تأخّرُها اليوم بالبدءِ ببناء قاعدتِها التحتيّة التي ستؤهّلها لخوض مشاريع الرقمنة الكبرى، يوسّعُ الهوَّة الشاسعة التي تفصل العرب عن بقية العالم المتقدّم!...
لعلّ استعارة «السلحفاة والأرنب» لم تعد اليوم مناسبةً لمقارنةِ سرعةِ تطوُّرِ العالم العربي بالقياس إلى الغرب والشرق الأقصى اللذين صارا، بفضل مشاريع الرقمنة الكبرى، أشبه بأرنبٍ مُجنَّح! في حين أمست سلحفاتنا العربية العزيزة عرجاء، تلتهمها الفيروسات!...
ثمّة مع ذلك مقترحاتٌ عمليّة متكاملة قدّمها هذا المقال، قد تساهم في تغييرِ شيءٍ ما، إن وَجَدت من يلتفتُ إليها ويلتفُّ حولها ويناقشها ويطوّرها ويحوّلها إلى واقعٍ عملي!... لعلها بحق مفتاح مجتمع المعرفة، الذي لا تنميةَ أو تطوّرَ بِدونه!...
(*) روائي يمنيّ وبروفيسور جامعي في علوم الكمبيوتر، فرنسا.
شكر:
أشكر من الأعماق الأستاذ العزيز عدنان عيدان، صاحب المترجم الآلي: المسبار، والأستاذة إنعام بيوض، مديرة المعهد العالي العربي للترجمة في الجزائر، على سلسلة النقاشات معهما التي أفادتني كثيراً. أدين لهما بشدِّ اهتمامي لكثير من القضايا التي تعرَّض لها هذا المقال الذي ما كان لِتحليلاته ومقترحاته أن ترى النور أحياناً، لولا التفاعل والنقاش معهما!...